|
الشاعرة هندة السميراني |
العنوان:
رمزيّة العلامة وغواية المعنى
في
ديوان: أفيض بك وحروفي عطشى
للشّاعرة:
بسمة الصحراوي
إنّ الولوج إلى
عوالم القصيدة بخفاياها ودروبها الشّائكة منها والمتاحة ليس بالأمر اليسير ولكنّه
يظلّ متعة رغم ما فيها من العسر، خاصّة وأنّ هذه العوالم الّتي تتشكّل بها ومنها
القصيدة تتمنّع ولا تهب نفسها وإنّما تدعوك للغوص عميقا ليتحقّق الارتواء لغة
ومعنى خفيّ..
ولعلّ هذه الإطلالة على ديوان الشّاعرة
بسمة الصحراوي «أفيض بك وحروفي عطشى» ستلامس جانبا من الجوانب الكثيرة الّتي يمكن
أن نتناول بها الأثر، ومن هذه المداخل المتعدّدة دراسة العنوان بما هو «عتبة أولى
من عتبات النصّ وعنصر مهمّ في تشكيل الدّلالة وتفكيك الدّوال وإيضاح الخارج قصد
إضاءة الدّاخل» كما عرّفه العديد من دارسي الأدب.
فهل العنوان ذاك السّؤال الّذي تطرحه
الذّات الشّاعرة ليجيب عنه النصّ؟ هل هو علامة غامضة تبحث عن تأويل فيتشظّى المعنى
بتباين القراءات واختلاف مستويات التلقّي؟ وهل أفصح ديوان الشّاعرة بسمة الصحراوي
من خلال وظائف العنوان المختلفة سواء أكانت مرجعيّة أو انفعاليّة أو جماليّة... عن
خيط ناظم وحقل دلاليّ جامع لرؤيا الذّات للذّات والعالم؟
لا مناص من التّأكيد
منذ البدء على أنّ العنوان يمثّل علامة ورسالة قطباها باثّ ومتلقّ، وعبر هذه
العلاقة يتحقّق التّواصل سواء معرفيّا أو جماليّا من خلال رسالة عادة ما تكون
مشفّرة ليضطلع المتقبّل بوظيفة تأويليّة حسب تفاعله توسّلا بلغة تكون عابرة لحدود
الكلمات معبّرة عن معانيها..
ولتكتمل أركان
الخطاب ويحقّق هذا الأخير غايته، نجدنا إزاء رسالة تمرّرها الذّات الشّاعرة عبر
قناة هي اللّغة صريحة حينا ومتلبّسة بالإيحاء أخرى في مقامات شتّى.
يقودنا هذا القول
إلى النّظر في عناوين ديوان «أفيض بك وحروفي عطشى» لنقف على وظائف عديدة تتجلّى
لنا من خلال لعبة الضّمائر، فحركة العناوين تتبعها القصائد تدور في فلك ضمائر
ثلاثة: الأنا وخطاب الذّات، الهو غيابا، والمخاطب مفردا وجمعا، كما أنّنا لا نعدم
حضور الخطاب الثّنائي بين الأنا والأنت في أكثر من عنوان.
تشدّنا إذن في هذه
العناوين أكثر من وظيفة ومنها الوظيفة المرجعيّة من خلال تمحور الخطاب حول ضمير
الغائب، نجدها في عناوين هذه القصائد: «القصيدة عروس عربيّة/ هو... هي/ لا إيمان
له بالبيتزا/ ليشرق من رفات...»
وربّما كان اقتحام
أغوار النصّ وفضائه الرّمزي الدّلالي هو ما يكشف ما تحمله الذّات من مواقف تجاه
واقع مكبّل بأغلال الصّمت والقمع والسّقوط في هوّة الخذلان..
تقول الشّاعرة في «القصيدة
عروس عربيّة:»
إنّ البياض وحي عبور
إلى قصيدة عربيّة
تركبها جدائل الصّمت
سطوة أمل
وهيبة عناق قدّ
من لاءات الخرافة..
وفي قصيدة «هو... هي»
تقول:
هو الجوع القابع تحت
مسامات الرّحيل
هي التّعب المتّكئ
على الدّفء القادم
من مداها..
هو صوت الأنثى،
المرأة تكتم صراخها فيضجّ حرفها:
يا شيخ الضفّة
اليسرى
ثار الطّوب على
الطّوب
ولا ظلّ للجدار
فلمن سلامك؟ ص81
لئن كانت الوظيفة
المرجعيّة للعنوان محدودة الحضور فإنّ الوظيفة الانفعاليّة تتبدّى أكثر جلاء
وكثافة خاصّة وأنّها ترتبط بخطاب محوره ذات المتكلّم فنلفي هذا الاتّساع وهذا الامتداد
للذّات في عناوين عدّة «أنا لست عاشقة/ أحتاج نبيّا ربّما/ أستودعك كذبتي/ أنا
العاصمة/ أعدك/ أكتبك خلسة/ أنا الدّاهية الأشهى/ تصدّني الثّنايا/ سيقتلني الإطار...»
إنّ هذه النّزعة
الإخباريّة التقريريّة في كلّ العناوين المحقّقة للوظيفة الانفعاليّة تشي بنوع من
محاولة التطهّر والتخلّص من مشاعر وحالات من الثّورة الدّاخليّة تحياها الذّات
وتروم أن تتحرّر منها...
«أنا لا أشتهي جسدك
كباقي النّساء
ولا آكل بيديك
ككلّ الحبيبات
أنا فقط أريد رؤية
روحي
في عينيك للمرّة
الثّانية.. (أنا لست عاشقة ص22)
«دعيني أعدم الخوف
من عيون الخدم
وإن جوّعوك
دعيني أزيّن أعناق
السنابل
بالأحمر المكشوف
من لاءاتي.. (سيقتلني
الإطار ص145)
أمّا عن الوظيفة
الإفهاميّة للعنوان ومحورها المخاطب فكان في عدد غير قليل من عناوين القصائد،
والملاحظ أنّ هذا المخاطب لم تنقطع صلته بالمتكلّم/ ذاتا شاعرة فنجده في «كدت لا
أكتبك/ كفى أفلاما تزوّجنا/ ردّ لي حرفي/ لكنّك آخر/ أنت وأنا/ دعك منّي/ ارحل بخير...»
ولأنّ وظيفة الشّعر
لا تقتصر على الإخبار أو محاولة تبليغ المعاني بقدر ما تقوم على الرّمز والتّخييل،
فإنّ العناوين في هذا المستوى قد تراوحت بين خطاب خبريّ حينا وإنشائيّ حينا آخر
وكأنّ الذّات الشّاعرة تحاول لملمة شتات اللّغة الفاصلة الواصلة في ذات الحين،
تسعى أن ترمّم ما تداعى من حلم الاكتمال «فالشعراء لا يرسون على حلم واحد» ص30
هكذا تتناثر الرّموز
ويستفحل الإحساس بالتشظّي والقطيعة بين الأنا الظمأى، الباحثة عن الرّواء في صحراء
الآخر
«لست جميلة
على الدّوام يا سيّد
روحي ونبضاتي
فدعني...
حلما يغيّر لون
عينيه
كلّ ظلام...»
من هذا الفيض للرّوح
تناجي الرّواء وتحمل بوحا ظامئا تسير به في دروب الجمال وعر بلوغها... تلوح لنا
الذّات ناصعة الحلم والتّوق إلى جسر يحملها من ضفّة العطش إلى ضفّة يرتوي فيها
الحرف وتستوي الذّات قصيدة تنشد كمال اللّغة والمعنى وإن استعصى.
هنده
السميراني- مارس2023