|
الشاعرة والناقدة مها عزّوز
|
عندما تبني الدّارجة عالم
القصيدة وتنغّم إيقاعاتها
قصيدة بسمة الصحراوي "نحّ السيڤارو من يدّك "
نموذجا
رغم أنّ الدّراسات الألسنيّة
الحديثة قد أثبتت بما لم يعد يترك مجالات للشّكّ أنّ التّقسيمات اللّغويّة للغة ولهجة
ليست إلاّ تقسيمات اعتباطيّة دواعيها ذاتيّة وغاياتها مصلحيّة ونفعيّة بالأساس. ورغم
أنّ هذه الدّراسات نفسها أثبتت أنّ منطوق الإنسان إذا جاوز التّعبير عن الحاجة الغريزيّة
إلى الخوض في مسائل الفنّ والفكر لا يكون إلاّ في نطاق لغة احترامها هو شرط من شروط
الإنسانيّة. فإنّ في نخبتنا الصّفويّة ما زال هناك من يعيّر اللّغات بمعيار المقدّس
والمدنّس والرّفيع الجليل والوضيع الحقير. ولا ندري بالضّبط أين يصنّف أسماء من قبيل
أحمد فؤاد نجم والأبنودي ومظفّر النّوّاب. ولمّا كنّا الشّعب الوحيد في العالم الّذي
لا اعتزاز له بأعمال أبنائه، فقد توقّفت قائمة كتّابنا المبدعين عند النّصف الأوّل
من القرن المنصرم فلا شعر بعد الشّابي ولا أقصوصة بعد الدّوعاجي ولا رواية بعد المسعدي.
وهكذا تجاهلت الدّراسات النّقديّة عندنا كلّ ألوان الإبداع الّتي جاءت بالعاميّة رغم
أنّ الأستاذ صالح القرمادي قد دعا إلى اعتماد الدّارجة لغة رسميّة للبلاد التّونسيّة
منذ السّبعينات.
ولكنّ عالم الإبداع ظلّ
يسعى بعيدا عن الصّفويّة والنّخبويّة واللّغة المقدّسة. وظلّ يطارد الحياة حيثما كانت
متّبعا نهجها الحديثة في الأمم المتقدّمة. وهكذا تواصل حضور النّصّ الدّارج على ألسنة
الشّعراء. فقالوا ونشروا ولاقت نصوصهم آذانا صاغية ورواجا لا تصله الأقلام المصلوبة
على أسنّة الأبراج. ونعدّ الشّاعرة بسمة الصحراوي من الشّاعرات اللاّئي خضن هذه الحرب
الضروس ضدّ الصّفويّة ولا عتاد لها غير لهجة عامّيّة فيها من البساطة والعفويّة ما
مكّنها من التّعبير عن ذاتها كما شاءت وكيفما شاءت رغم اعتراض من لا يريدون. وبعد،
بسمة الصحراوي ليست خير شاعرة بالعامّيّة ولكنّها شاعرة ونصّها "نحّ السيقارو
من يدّك" ليس خير ما كتبت ولكنّها كتبت وقرأت وتفاعل معه الجمهور طربا وتصفيقا
وغيرة أيضا. ولمّا كان أمره كذلك رمنا أن نستقرئه عسى أن نصيب نحن أيضا بعض الخير إن
لم يكن في مجال الإبداع ففي مجال النّقد الّذي به يكون المبدع مبدعا رغم ثرثرة المعترضين.
اختارت بسمة الصحراوي
لنصها عنوانا "يا تطفّيه يا تطفّيني" فجعلت عالم القصيدة خيارين لا ثالث
لهما، في أسلوب خاصّ بالدّارجة وهو مستلهم من معاني النّداء في الفصحى. فالشاعرة تنادي
مخاطبا ولكنّها لا تستعمل اسمه بقدر ما تستعمل فعله. والفعل هنا هو فعل حياة أو موت.
فإن قرنت الشّاعرة حياتها بالتّخلّص من غريم يدمنه حبيبها، فذلك يعني أنّ الخلاص من
الإدمان عندها هو فعل حياة وأنّ الإدمان عندها ليس إلاّ نقيصة أحسن منها الانتقال إلى
عالم الأموات. إنّ الأسلوب الدّارج "يا انا ياهي" في القصيدة المكتسب من
دلالة النّداء في الفصحى يضفي على المعنى عمقا يتأتّى من الدّعوة إلى استبدال الإدمان
بالحياة.
فإن كان أسلوب الدّارجة
هو الّذي خلق عالم القصيدة فهو أيضا قد نغّم إيقاعها. ذلك أنّ الأسطر كانت قد التزمت
بحرف الكاف رويا دالا على المخاطب المشتهى. ولكنّ الشاعرة أرادت أن توجد له داخل الأسطر
ما يشبه الترديد فإذا الكاف في أغلب الأسطر تحيلك على أقرب الحروف إليها صوتيّا وهو
حرف الـــ (ڤ g:) مشتاڤة، ملقى تعلڤم... وليس الحرف من الفصحى
الرسميّة وإنّما هو صنو الدّارجة البدويّة الّتي تنتمي إليها بسمة الصحراوي. وهكذا
تكون الدّارجة عالم القصيدة وإيقاعها في آن.
نخلص بعد ذلك إلى أصل
الحكاية بين أنا الشاعرة والسيڤارو الّذي ينتزع منها حبيبها. فيغفل عنها هي المستعدّة
أن تقايض حبّه بالحياة. الحكاية لا تجاوز حكاية غيرة المرأة من كلّ ما يمكن أن يشغل
عنها حبيبها وإن طرفة عين. وهذا السيڤارو يملك عليه كلّ الحواس. وإذا دخانه حجاب منسدل
يسمح للسيجارة أن تختلي بالحبيب: يده وشفته وأنفاسه ثمّ تمنع ما يكون من التقاء العيون.
وهل الحبّ إلّا نظرة أطلقت دخانا عليها سيجارة؟ ملكت السيجارة من الحبيب المشتهى كلّ
الحواس ولم يبق للعاشقة من منفذ إلاّ منفذ السّماع. فلا عجب بعد ذلك أن تقتنصه في أسلوب
قويّ مزلزل وهو ما يبرّر صيغة الأمر بما لها من دلالة على قوّة الالزام ورقّة الالتماس.
"نحّ السيڤارو من يدّك"
تتكرّر أربع مرّات في النصّ. إنّها صورة العاشقة المستبسلة في انتزاع حبيبها من أخرى
أحاطته بكلّ فنون الغواية. فلم تجد بدّا من أن تنتصر لنفسها بالالتجاء إلى مساندة كلّ
القوانين الأخلاقيّة الاجتماعيّة. فالجملة "نحّ السيڤارو من يدّك" ترد عادة
على لسان الكبير يلوم صغيرا على اقتراف ذنب أخلاقيّ هو أيضا يقترفه. وكذلك تردّدها
الشاعرة متأكّدة أنّها الأخرى تقترف ذنب العشق ولا تستطيع عنه ابتعادا كما لا يتخلّص
المدخّن من سيجارته رغم العتاب. ولكن لا حيلة لها غير الكلام والتّسلّل من حاسّة السّماع
بعد أن ضاقت دونها بقيّة الحواسّ. تكرّر الفعل أربع مرّات حتّى إذا ضاقت به دعت إلى
إعدامه في حركة إذلال "ارم". لا تفعل ذلك إلّا وقد هيّأت للحبيب بديلا عن
التدخين "ثبت" " تكلم" "اعمل". إنّ العاشقة إذ تدعو
إلى إعدام السيجارة تدعو إلى بناء جديد عماده التأمّل والتّواصل والتّغيير الفعليّ
الجديد. ذلك مفهوم الحبّ الحقيقي: يبني العاشق حبيبه بناء جديدا باذلا حياته بديلا
عن النّقائص. ولا تلبث العاشقة بحسّها المرهف أن تدرك أنّها قد انتصرت إذ توسّلت إليه
حاسّة السّمع. ولا عجب في أنّ حاسّة السّماع تستدقّ في العاشق حتّى ليسمع الحفيف ويطرب
للوشوشة وينشيه التأوّه والأنين. وهكذا لا ينتهي النصّ إلاّ وقد لان العاشق لما
جاءه من رسائل العشق وخاتمتها دعابة تدعو إلى ترك السيجارة واستبدالها بصورة للذّكرى
تخلّد هذا الانتصار."إيجا أعمل معايا سلفي"
أفلحت بسمة صحراوي إذن
في أن تكون تلك العاشقة المعشوقة وانتصرت على غريمها إلى درجة أنّها انتزعت منه فعله
المميّز فدعت حبيبها إلى أن "يتكيفها" في دلالة جديدة للفعل بما هي دعوة
إلى اللّذّة حتّى الانتشاء وقد كان الفعل المرتبط بالسيجارة حرق واحتراق. والمعنيان
متلبسان باللّهجة الدّارجة والفصحى عنهما نائية منئية.
إنّ انبثاق المعنى في
القصيدة من اللّهجة الدارجة وقيام الإيقاع على أصواتها لممّا يؤكّد قدرة الشّاعرة
على تطويع إمكانيّات اللّغة/ اللّهجة إلى ما جال في عاطفتها وخامر ذهنها وتلك خاصّيّات
الشّاعر الفنّان.
مها عزّوز
القصيدة بصوت صاحبتها الشاعرة بسمة الصحراوي